الجزء الثاني من أزمة المثقفين مع الحكم في العالم العربي
الحلقة الثانية
الواسع. "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ولا
شك أن الذي يتحمل القسط الأكبر
في هذه المسؤولية المتخاذلة هم المثقفون بجميع فيئاتهم.
فإذا أصيبت أمة ما بنكسة من النكسات، فالمثقفون وحدهم من يتحمل عواقب هذه النكسات.
نحن أصحاب رسالة ولكننا نسير عكس التيار!!!
و مع أننا أصحاب رسالة مقدسة فرضتها علينا
السماء، تقوم على مبادئ الحق و الفضيلة والخير، إلا أننا فرطنا في واجب القيام بها
على الوجه المطلوب الذي حددته قيم الفضيلة الواردة في كتابنا المقدس. عبر مؤسسات
التوجيه والإرشاد، وعبر فكرة الانقلاب التي جاء بها مفهوم الاستخلاف المعادي
لدعائم الاستكبار والاستعلاء في الأرض. الذي جسده واقعيا عبر حقب التاريخ طغيان
المترفين من الفراعنة والأكاسرة والتتابعة، وآلائهم ممن يسبحون في فلكهم بفعل
جماعي من عصب مصالح المال والعسكر والمنتفعين. ممن استولوا على مؤسسات الدولة
وعاثوا فيها فسادا.
والدولة بمفهومها المعاصر، إنما وضعت لصيانة
الحقوق والواجبات وحفظ النظام العام ، وتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة.
وتوفير الرخاء والرفاه والطمأنينة للمواطن. وغرس الروح الوطنية لديه، ولم توضع
كمطية يستقلها المحظوظون والمترفون التي ساعدتهم الظروف السياسية والمآسي
الوطنية،لركوبها واستغلالها من أجل تحقيق نزواتهم بنيل الامتيازات والريع والثراء.
وقد حدث هذا الانزلاق الخطير نتيجة
تخلي المثقفين عن دورهم في صناعة الرأي العام الذي تفرضه عليهم طبيعة وظيفتهم
الأخلاقية، وحتى القانونية في بعض الأحوال.
فنتج عن ذلك انعدام
الصلة بينهم كمسئولين أخلاقيين وبين مجتمعاتهم. فالواجب يفرض عليهم التضحية من أجل
شعوبهم.فيناضلون بالدعوة إلى إقامة الحكم الراشد الذي تدعو إليه القيم الإسلامية والديمقراطية، فمسؤولية المثقفين إذن
تكمن في حمل السياسيين على احترام مبادئ الحكم الراشد والتداول عليه، وليس
من الأخلاق أن يزينوا لهم سوء أعمالهم، ويلمعوا لهم قبيح أفعالهم، ويمكنوا لهم بالدعاية
سبل الخلود في عروشهم والاستبداد في الحكم، والطغيان فيه، والأثرة والاستعلاء
والتميز عن شعوبهم..
فأزمة
المثقف العربي مع الحكم اليوم، أصبحت تكمن في كونه وجد نفسه وجها لوجه أمام إغراء
الكراسي الوثيرة، والأضواء اللامعة والتدرج في مراتب الشهرة والمجد. التي يضمنها
لهم قدرتهم الفائقة في المدح والتودد والتزلف لمن بيده الأمر والنهي، على غرار ما
كانت عليه ثقافة القرون الوسطى في بلاط الخلفاء والأمراء والملوك.
وهذا ما
أدركه رجال السلطة والحكم. فراحوا يقدمون كل ماله صلة بالإغراء لشراء الذمم الوافدة، وقطع الألسنة القادحة،
وكسر الأقلام الجانحة. وشل الإرادات الصامدة. فصارت معظم هذه النخب ممن رضيت بهذا
الذل والهوان مقيدة التفكير ، جامدة الحركة ، لا تحسن إلا تقديم فروض الطاعة
والولاء .
لذلك ازدادت
مصائب الأمة وتراكمت عليها المشكلات، وضعفت همتها ، وأصبحت تشك في مقوماتها وقدراتها
ومواهبها، وفضلت الانسحاب من الحياة السياسية مستسلمة للأمر الواقع.
تودد المثقفين إلى
رجال الحكم:
وبمشاعر
الحسرة والألم نقول: إن تودد المثقفين لرجال الحكم،نتج عنه انحراف في وعيهم وسلوكهم
السياسي، يحدث هذا عندنا في الوقت الذي صارت فيه نخب الأمم والشعوب الحية ترتقي بعقولها
إلى مستويات عليا من الوعي بالتحديات التي تواجهها في مختلف المجالات.
وقد استطاعت
بفضل ذلك الوعي أن تؤسس منظومات فكرية وسياسية ، ساعدتها على تشخيص المشكلات التي
يمكن علاجها، لبناء نهضة سياسية واجتماعية واقتصادية متوازنة ومنسجمة مع أهداف
الدولة الديمقراطية. فدفعوا السياسيين إلى تحقيق قفزات ثورية في التطور العلمي
والتكنولوجي. ما جعل كلمتهم تجتمع على وجوب النهوض بشعوبهم إلى مستويات عليا من
التقدم والازدهار، فحققوا تنمية شاملة في جميع المجالات الحيوية في دولهم. فوفروا
بذلك الأمن والأمان والرفاه، والرقي والازدهار والسعادة لمجتمعاتهم.
ولكن الشعوب الحية تحمل في جيناتها القابلية للتغيير:
والسبب في ذلك أن هذه الشعوب تحمل في بذور تكوينها النفسي والبيولوجي جينات
القابلية للتغيير، فتؤمن بأن الإصلاح السياسي هو جوهر أي إصلاح، إذ أن بصلاحه يصلح
كل شيء. فالإصلاح السياسي بهذا المفهوم يعني القضاء على عوامل احتكار السلطة،
ومظاهرها السلبية من استغلال النفوذ والاستبداد، والتفرد في الحكم ، والدوس على
القوانين. واتخاذ القرارات فرديا وارتجاليا ومن غير إخضاعها للشورى والقوانين
والتشريعات. وإرشاد رجال الحكم إلى الابتعاد عن استعمال العقلية المنغلقة على
ذاتها ، فتجعل الفرد يقدس ذاته ويعبد نفسه، ويتشبث برأيه ويزدري الآخرين ويسفه
آراءهم. ويتسلط عليهم بوسائل الدولة التي امتلكها في كثير من الأحوال بطرق غير
مشروعة.
و التفرد في الحكم، إذا ترك صاحبه من غير الأخذ
بيده، سيؤدي به إلى البطر والطغيان والاستعلاء في الأرض ،ويصبح الناس على هوى
كبيرهم، فيزداد الأمر سوء فيستشري الفساد بين الناس، فتعم الفوضى ويختل النظام ،
وتنعدم الثقة، وتبلغ القلوب الحناجر، وتنبت بوادر الفتنة والشقاق بين الناس.
ويترتب على ذلك أن تشقى الشعوب بحكامها، وتنحط مدارك تفكيرها إلى الحضيض. وتنخفض
لديها مستويات الشعور بالمسؤولية. فيزداد بذلك شقاؤها ومأساتها وتنتهي إلى منحدرات
الموت البطئ
!!
فالتسلط ذو طبيعة تدميرية ، فحيث ما حل يأتي
بالدمار، فيسلب الإنسان حريته وإرادته ويجعله عبدا لغيره .خانعا خاضعا ذليلا!! مقيد العقل مكبل اليدين محطم العزيمة خائر القوى ،
مضطرب التفكير والسلوك ، متقاعسا متكاسلا، رديء المنتج، ضعيف الشخصية مستسلما لا
يقوى على مجابهة الصعوبات والمواقف!!
فهذه الأعراض الخطيرة،
إذا تفشت في مجتمع ما فستؤدي به ـ لا
محالة ـ إلى اضطرابات في بنيته الفكرية والنفسية والأخلاقية والسلوكية. وهذا عين
ماهو موجود في عالمنا العربي مع الأسف الشديد!!
فرغم ما حابانا به
الله سبحانه من ثروات بشرية ومادية كبيرة، ومن تراث ثقافي وعلمي أصيل ، ومن موقع
جغرافي متميز بامتداداته وثرواته ، فرغم ذلك كله ما فتئنا نصاب بالنكسات وخيبات
الأمل على جميع ألأصعدة، ونسجل خطوات إلى الخلف، حتى أصبحنا محل تندر وأحجية لدى
الشعوب والأمم في الأرض. وما مرد ذلك إلا بسبب مآسينا السياسية!!
افتقدنا التوازن النفسي والتماسك الاجتماعي.....:
لقد فقدنا من جراء هذا
التقهقر والمآسي القدرة على التوازن النفسي والتماسك الاجتماعي، و مهارة الابتكار
في جميع مجالان الإبداع الخلاق. وهي مقومات لابد منها لبناء أية نهضة متطورة. وفي
مقابل ذلك أصبحنا متفوقين في إنتاج مظاهر الفساد والتدمير لكل ما يمت إلى المبادئ
الأخلاقية والسياسية والديمقراطية، وإشاعة الرذيلة ونشر ثقافة التيئيس من كل ماهو
وطني وعربي وقومي وإسلامي.
وصار البعض
يشجع على الخيانة والعمالة للأجنبي بطرق فيها الكثير من المكر والخديعة، تحت
مسميات براقة ، ولكنها تحمل في طياتها الدمار والشنار للذات الوطنية والقومية
والإسلامية على حد سواء. مقابل أن يسمح لهم الأجنبي - الذي تظل عينه تراقب الوضع
عن كثب - يسمح لهم بالتزوير واستعمال
المزور. ويبيح لهم التدليس والاختلاس والتهريب والتحايل على القوانين والتشريعات.
ونهب المال العام وخيانة المسؤولية...
وعندما نحاول أن نحمل
طرفا ما هذه المسؤولية، فإن القسط الأكبر تتحمله النخب الثقافية بكل تياراتها العلمية
والثقافية والسياسية والإعلامية والمجتمع المدني. لأن لهم مسؤولية كبرى بمقتضى ما
تدعو إليه المبادئ الأخلاقية والقانونية والعرفية تجاه أوطانهم وشعوبهم وموروثاتهم
التاريخية والحضارية. ولكن المشكلة التي فاقمت الأمر أن أصبح هؤلاء المثقفون لا
يختلفون عن عوام الناس إلا بالشهادات ومواقع مسؤولياتهم فقط. والسبب في ذلك – حسب
رأينا - يعود إلى بذوروراثية رديئة ترسبت في أعماق الوعي العربي. نتيجة البذرة
الجينية التي عرفت طفرة سيئة في نموها وارتقائها نحو الأسوأ، بسبب تراكمات جغرافية
وسياسية وثقافية وتاريخية واستعمارية، شكلت هذا الوعي الذي استعصى علاجه واستئصاله
من الجذور.
وعلماء النفس والتربية يعلمون حق العلم ما
للعوامل الخارجية من تأثير خطير على التحولات الذهنية والنفسية،(حدوث الطفرة) سواء
في المسارات المحمودة أو في المسارات المذمومة. وحينما كان تاريخنا السياسي والعسكري
مشحونا بالمآسي والنكسات لمدة طويلة، عبر تاريخنا الحديث والمعاصر.( بل وإن شئت
تاريخنا الوسيط)، ظل مستميتا في حروب طاحنة وصراع مسلح على امتيازات الحكم، فإن
امتداد ذلك أثر على حياتنا السياسية اليوم وساهم في خلق هذه
../... يتبع
الجزء الثاني من أزمة المثقفين مع الحكم في العالم العربي
Reviewed by Unknown
on
11:38 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: