Top Ad unit 728 × 90

أخبار الانترنت

الصراع بين الفصحى والعامية في احتلال الأولوية في التدريس
لا ينسجم مع  النظريات التربوية الشهيرة، ولا مع المدارس اللسانية في أي مدرسة بالعالم.
بدأ الصراع يحتدم بين الفصحى والعامية في التدريس، والتعاملات الإدارية، حين احتل المستشرقون مواقع التأثير في بعض البلدان العربية في المشرق العربي، وقد بدأت الدعوى  إلى العامية سنة 1880م. من قبل المستشرق ( وِلْهم سبيتا) في مصر، تبعا للمخططات التي وضعها الاستعمار في مخابره السرية، قصد تفكيك الوحدة العربية عبر ثلاث استراتجيات، هي:
الإستراتيجية الأولى للتفكيك: إن فكرة الدعوة إلى العامية فكرة قديمة. أوكلتها الدوائر الاستعمارية في العالم العربي حينذاك إلى المستشرقين والمبشرين. الذين كانوا يشتغلون كمدرسين في الجامعات أو كملحقين عسكريين في السفارات، أو كموظفين في بعض الدوائر الحكومية العربية تحت شعار التعاون العلمي والثقافي لتحقيق غاية استعمارية مقيتة.
                                  ( سأتناولها فيما بعد).
 وهي تقسيم العالم العربي إلى أقصى درجات التقسيم، ضمن دويلات صغيرة لا تقدر على التنافس على إدارة السياسة الدولية.  وتكتفي بالتنازع على الحدود فيما بينها. مثلما هو عليه واقعهم اليوم.وهو من المخططات المحبكة التي انتظرها بسعادة غامرة. وكانت البداية بإسقاط الوحدة السياسية عبر نظام الخلافة الذي شكل لهم غصة في حلوقهم قرونا عديدة.
 والغرض من ذلك ضمن تخطيطهم الدقيق، هو البدء بتقويض البنية السياسية التي تنتظم بداخلها النظم الدينية، والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية. ولما تم لهم ذلك افتراضيا قبل سنة 1918م، قاموا في هذه السنة بتقسيم العالم العربي إلى كيانات صغيرة عبر اتفاقية  ساس بيكون الشهيرة. وكي يبعدوا الأمة عن موروثها الثقافي الذي هو عماد وجودها وقوتها ووحدتها،  وضعوا خطة أخرى ماكرة أشد ما يكون المكر. وهي الدعوة إلى وجوب تكوين كيان قومٍ أسموه الجامعة العربية، ليفصلوا بين العرب وباقي المسلمين. كيما يحققوا أهداف التفرقة والتجزئة.

 وبعدما تحقق لهم الهدف.هاهم اليوم يسعون سعيا حثيثا لتفكيك هذه الجامعة بوسائل أخرى تتناسب مع ظروف هذا الزمن.فأصبحت هذه الجامعة هيكلا بلا روح ، لا تعقد فيها الاجتماعات إلا لتبادل الشتائم والخصومات. ومع ذلك بقيت هذه الجامعة، كآخر كيان يوحد أشتات العرب. وهي المؤسسة الوحيدة  كهيكل سياسي وقومي مازال يحمل شعار الوحدة العربية، وما انفك يصارع من أجل الصمود والبقاء. وكانوا بالأمس (1945) قد سعوا إلى تأسيسها، لأن الأهداف السياسية في تلك المرحلة كانت تدعو إلى ذلك

الإستراتيجية الثانية للتفكيك: وتتضمن إحياء النعرات الجهوية والعرقية، والدعوة إلى إحياء اللهجات المحلية. بتقديم الدعم السياسي والمالي والفني. لبروز هذه النعرات الإثنية في البلدان الإسلامية والعربية على وجه الخصوص. مثلما فعلوه مع بلدان المغرب العربي، حين ساعدوا الحركات الانفصالية على تأسيس الأكاديمية البربرية في باريس في منتصف الستينيات من القرن الماضي.
 وحثوا الأقباط في مصر على الدعوة إلى طلب حقوقهم الثقافية والدينية. وشجعوا العراقيين على إحياء الأشورية والسومرية. وعملوا على  زرع بذور التفرقة بين العرب والأكراد. وفي جزيرة العرب أثاروا فكرة العرب العاربة والعرب المستعربة. وفي السودان زرعوا بذور التفرقة بين العرب والزنوج. وأجبروا اندونيسيا على فك الارتباط مع إقليم تيمور الشرقية ذات الأكثرية المسيحية.ثم استغلوا حماسة الشباب المتشدد للزج به في تبني خيارات صعبة قادته إلى التصادم مع بني قومه ودينه لتدمير عوامل الوحدة والقوة التي بنيت خلال عقود من الزمن بدماء وعرق هذه الشعوب المغلوبة على أمرها.
الاستراتيجية الثالثة للتفكيك: في هذه الإستراتيجية، أحكمت القبضة على ما تبقى من عوامل التفكيك، إذ أوكل الجانب السياسي في عملية التفكيك إلى العوامل السياسية عبر المؤسسات الدولية في بعض الحالات،. وإلى استعمال القوة وما يتناسب معها من الوسائل التي تخلق الفوضى الخلاقة  في حالات أخرى، حسبما عبر عنه أحد الزعماء السياسيين (بوش الابن).
والدعوة إلى التدريس بالعامية هي إحدى الوسائل التي أوكلت مهمة تنفيذها على المستوى المحلي إلى المدافعين والموالين للثقافة الأجنبية من أصحاب الفضاء الفرانكوفوني.. والذين يحتقرون هوياتهم. ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب من غير توكيل.
   فحينما تم تهديم القواعد البنيوية للدولة العربية،  وصارت في طريق الانحلال والابتذال وفقدت خصائصها الوطنية والقومية، أرادوا الإجهاز عليها بما تبقى من لحمة تربط الأواصر الاجتماعية والثقافية لهذه الأمة . فتمت الدعوة من جديد إلى أن  ينهوا المشروع  بتدمير الفصحى وقواعد أحكامها إحياء للمشروع الاستعماري القديم.
 وكان أول من دعا إلى العامية حسبما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطبي هو(وِلْهلم سبيتا )،سنة 1880م. "مدير دار الكتب المصرية. الذي تنبأ بموت الفصحى. واعتمد في تحليله على الثنائية اللغوية في مصر". ( د/ مصطفى بن حمزة. جريدة هسبريس الالكترونية).
وفي الاتجاه نفسه نحا نحوه، " مهندس الري الانجليزي.( ويلكوكس) سنة 1893م. كان يعمل مبشرا متخفيا عن الناس في نادي الأزبكية. فدعا إلى إحلال العامية محل الفصحى. وأسس لأجل ذلك مجلة كان يستعمل فيها العامية. ولم تلبث أن أغلقت بسبب رفض المثقفين لها. وبعد ثلاثين سنة ظهر هذا المبشر على حقيقته المعادية، فترجم الإنجيل إلى العامية وأصدره سنة 1925م. وألف أحد قضاة مصر بمحكمة الاستئناف في مصر من الانجليز وهو القاضي (ولمور) كتابا أسماه لغة القاهرة فوضع قواعد لها، ثم اقترح اتخاذها لغة العمل والأدب. وقد وجد مقاومة ضارية من العلماء والأدباء والشعراء".( المرجع السابق)
ورد عليه حافظ إبراهيم بقصيدته الشهيرة.
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي***وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني***عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي *** رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية ***وما ضقت عن أي به وعظاتي
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة*** وتنسيق أسماء لمخترعات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب***  ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ثم خلَفَ خلْفٌ من بعدهم من أبناء جلدتنا، ممن انبهروا بآراء المستشرقين والمبشرين. من أمثال سلامة موسى وسعد عقل واليا زجي  وطه حسين وغيرهم.
وفي الجزائر كان الاستعمار يعمل على تقويض الفصحى بكل الوسائل. وقد أسس جريدة سنة (1847-1927) اعتمدت لغة عامية متسفلة. وهي خليط من الفصحى والعامية ذات تراكيب ركيكة.منها ما جاء في العدد الأول. " اعلموا يا مسلمين أرشدكم الله العظيم سلطان افرنصة نصره الله اتفق له برأيه وقوع هذا المبشر مختص لفائدتكم يرضى لكم ما يرضاه لنفسه" ( لغتنا والحياة، ص 173).
 وبعد الاستقلال مباشرة، رفع لواء هذه الدعوة غلاة الفرانكفونية ممن تأثروا بالثقافة الغربية. والذين كانوا على رأس الإدارة الجزائرية. ولكنهم كانوا يكيدون للعربية في الخفاء ولم يظهروا للعيان، لأن الدولة كانت قوية وملتزمة بخطها الوطني والقومي. وبعد الانفتاح الديمقراطي ظهروا على حقيقتهم المعادية وكشروا على أنيابهم  وأعلنوها حربا بلا هوادة بأساليب مختلفة. أضعفها كان بتحدي الشعب والتحدث إليه بلغة عدوه نكاية فيه. ولم تتحرك مشاعر النخوة والشهامة في نفوسهم فيردعوا عما يفعلونه حياء وتذمما، وفيهم مجاهدون وأبناء شهداء.ممن يفترض أن يعطوا القدوة الحسنة للأجيال في الوطنية وروح المسئولية. بل رأيناهم سكارى بنشوة الحديث باللغة الفرنسية.
ثم بادرت عَرّاب الفرانكفونية الأستاذة مليكة قريفو، فنشرت ما تسميه كتابا بعنوان "المدرسة الجزائرية من بافلوف إلى ابن باديس". وهو بعيد كل البعد عن معايير البحث العلمي بمناهجه الدقيقة. وهو ليس إلا مجموعة من الخواطر والرواسب المكبوتة لمعت في ذهنها فدونتها في صياغة إنشائية ثم ضمتها بين دفتي كتاب فاعتبرتها بحثا، وهو مخالف لمناهج البحث العلمي المعروفة – التحليل الإحصائي، التحليل الوصفي، التجربة، تعميم العينة،  الإحصاء المعياري، لغة الاستبيان...الخ. ( وقد ناظرتها في ذلك وكشفت لها خطأ منهجها في الكتابة والحكم.  عبر جريدة الشروق سنة 1990).
كان تحاملها واضحا على أهداف المدرسة الأساسية، مثلما كان يردده غلاة الفرانكفونية. فذهبت إلى أن سبب ضعف مستوى التعليم هو المعربون في إشارة ضمنية لأنهم اعتمدوا على مرجعية شرقية. وهي مرجعية متخلفة- حسب زعمها- وكانت جريئة في إصدار هذا الحكم البليد من غير علم. فلما واجهتها بأن كبار المنظرين والمثقفين في الشرق هم خريجو الجامعات الأمريكية والانجليزية والألمانية والفرنسية... وأن أقلهم حظا يتقن لغتين على الأقل. وأن علماء التربية الكبار هم أمريكيون وليسوا فرنسيين، وأن المدارس البحثية الحديثة الكبرى في التربية وعلم النفس هي أمريكية النشأة وليست فرنسية.( كالمدرسة السلوكية والبنائية والقصدية والوظيفية....وأن كبار المفكرين التربويين والنفسانيين أمريكيون. مثل: بوبيت وسكنر وثورندايك و واطسن وتايلر وكانيي  وماجر و ميجر وبلوم وكوفكا وكوهلر....وهؤلاء هم الرواد الأوائل الذين أسسوا علوم التربية وسيكولوجية التعلم الحديثة. ولا يوجد أي واحد من كبار المربين ممن كوّنوا مدارس كبرى من الفرنسيين. والفرنسية اليوم تتساوى مع العربية في الترجمة إليهما من الانجليزية. ينبغي أن نستثني (روسو ولمارتينيار وألان)، لأنهم ليسوا أصحاب مدارس كبرى مثل الأمريكيين. (الكلام يطول في هذا الموضوع).
وحينما أسست الفاضلة قريفو مدرسة خاصة لم تتبن لغة الأم التي طالما نادت بها ووثقتها في كتاب خواطرها. وإنما اعتمدت اللغة الفرنسية كلغة للتعلم انطلاقا من السنة الأولى.وهنا انكشفت الحقيقة المزيفة لهؤلاء العرابين. وهاهي اليوم تطل علينا في وسائل الإعلام من جديد لتغالط الناس بأفكار مبهمة وغير واضحة، كقولها: "المشكلة حضارية" ، وحين لم تجد من يفري فريه في شأن ما يعرفه عن دواخلها بأسئلة محددة ودقيقة لمواجهتها، راحوا يصدقونها وأخذوا لها صورة تذكارية مع الأستاذ الهادي حسنين وبثوها في مواقع التواصل الاجتماعي للدلالة على منهجها السليم. وقربها من الخط الوطني الإسلامي. وكتب الإعلامي يعقوبي في صفحته ينوه بفكرها وسلامة منهجها مستدلا على أخذها صورة تذكارية مع الأستاذ الهادي حسنين. فرددت عليه بما لم يعرفه عنها وهومبثوث في كتابها. وكذا بالمقولة الشهيرة  لعلي بن أبي طالب: " بالحق يعرف الناس وليس بالناس يعرف الحق".
 والأستاذ الهادي – شكر الله سعيه – الذي سخر قلمه وعلمه للدفاع عن الحق والفضيلة، ومحاربة بقايا الاستعمار ممن انتخبوا ضد استقلال الجزائر من العرابين للثقافة المتفرنسة، هو رجل فوق الشبهات والظنون، وهو من يعرف الناس قدره وفضله، ولكن فيما يبدو أنه وقع في موقف حرج كانت هذه هي نتيجته. فكان ذلك سببا في تقدير الناس الخاطئ لمواقف الأستاذة قريفو وتوجهاتها في الدعوة إلى لغة الأم. فهي وعرابوا الفرانكفونية من السياسيين والإعلاميين يغرفون من مشكاة واحدة.

يتبع


الحلقة الثانية
وحين نمعن النظر في موضوع التدريس بالعامية، نجد أن أطروحة ما سبق ذكرهم من المستشرقين والمبشرين وفرنسا الاستعمارية تتفق تماما مع ذات الأطروحة التي أصبح ينادي بها دعاة العامية من مسئولي  وزارة التربية.
وكأن وزارة التربية عندنا أصبحت مؤسسة تنفيذية لآراء المستشرقين والمبشرين والكولونياليين في الدوائر الاستعمارية. فهذه الدعوة من الوزارة – ربما على غير قصد- هو إحياء لمشروع استعماري قديم فشل يومذاك في تحقيقه بسبب معارضة المثقفين والسياسيين له.
 يقول دعاة العامية في الجزائر : إن الفصحى هي لغة أجنبية عن الطفل وهذا هو الطرح الذي كان ينادي به الاستعمار والاندماجيون..من أجل التضييق على اللغة العربية. وهي سبب تقهقر التعليم في البلاد. لمغالطة البسطاء من الناس ممن ليس لهم حظ وافر في التعلم. لإدراك مقاصدهم المبيتة.  ولست أدري لِمَ لمْ يطلقوا هذا التوصيف ضعف التلاميذ البيّن في اللغة الفرنسية التي وصلت إلى الحد الأدنى من معايير التعلم.ولم يصفوها بأنها لغة أجنبية وبأن نتائجها وصلت إلى درجات الخطورة.
 لقد فاجأتنا الوزيرة ومن يقف وراءها، بهذا الاكتشاف الخارق للعادة، والذي لم تكتشفه الصين واليابان والفيتنام والكوريتان والهند ذوات اللغات المعقدة واللهجات الكثيرة. ودول عربية كبرى كالسعودية والعراق وسوريا ومصر والسودان واليمن والمغرب. واكتشفه خبراء الصالونات المتفرنسون المستوردون من فرنسا والسنغال والذين لا يعرف الشعب وجهاتهم، ومن على شاكلتهم من الخبراء غير المعروفين في وزارة التربية.
 وقد قضينا أربعين سنة تدريسا وإشرافا وكتابة، ولم نسمع بهم البتة.ثم يدلي أحد مسئوليها بتصريح يدعم به فكرة الوزارة. وبأن اللسانيات التي يجهلها رجال التربية - حسب زعمه- تدعو إلى التدريس بالعامية  وهذا تجن على الحقيقة السيميائية التي يتفاخر بها هذا المسئول على رجال التربية ممن يعتقد أنهم لا يعرفونها.
فالسيميائية يا حضرة المسئول المبجل، ليس من وظائفها البحث في تعليمية المواد وبيداغوجيتها بطريقة مباشرة ومقننة، فهي من حيث دراستها التحليلية للنص الأدبي إنما تُعنى بالبنى التركيبية والدلالية والتوليدية للصوت والكلمة والجملة، وتدرس النص الأدبي من جميع جوانبه . وتغوص في أعماقه كيما تكتشف مدلولاته المحتملة مع محاولة ربط النص بالواقع الفكري والخيالي للمتلقي. وما يمكن الاستفادة منه وأخذ العبرة من طريق الدلالة الرمزية المباشرة وغير المباشرة.
 وقد أول هذا المسئول معنى ربط النص بالواقع تأويلا خاطئا، حيث ربط ذلك الواقع بالعامية.. واللهجات المحلية ( لغة الشارع) لا تصلح إلا للتواصل العادي فيما بين الناس لقضاء حاجاتهم اليومية. أما المعاني  العلمية والفنية الراقية والعميقة ، لا يعبر عنها إلا بقاموس الفصحى الثري بالمفردات والعبارات والصيغ الفنية المدبجة.
واتهام الطفل بالضعف في استيعاب الفصحى في السنوات الأولى . يعطي الانطباع بانعدام الخبرة والاطلاع الواسع على علوم التربية( التعليمية العامة والخاصة واستراتجيات التدريس ونظريات التعلم والذكاء اللغوي، وارتباطه الوثيق برفع مستوى معايير التعلم ونظم التقويم ومعايير القياس). لهؤلاء المسئولين الذين أسندت إليهم مهمة تسيير وزارة بحجم وزارة التربية. والتلميذ حسبما ذهب إليه ( ألان، وشومسكي وبياجي...) يتمتع بقدرات الامتياز والتفوق في كل شيء, وحسب رأيهم، فإن من يتهم التلميذ بالضعف والغباء، يكون على غير علم بسيكولوجية الطفل وقدراته ومهاراته الطبيعية، وقد يسقط المرء الشعور عل ذاته، فيستعمل المنهج الإسقاطي في تحليل الظواهر التربوية والنفسية ( وهو منهج يستعمل لإسقاط الشعور على الذات لاستبطان مشاعر الآخرين) وقد يجانبه الصواب في تقدير عواطف الناس وقدراتهم.
 وتأخر التلميذ دراسيا في أي نشاط تربوي، إنما يعود إلى عوامل خارجة عن ذاته. قد تتعلق بالبيئة المدرسية ضمن نسقها العام، أو بمشكلات أسرية طارئة، كاليتم والطلاق والزواج على الأم وعسر الحالة الاقتصادية ... وعلماء التربية والسيكولوجيا، كلهم متفقون على تفوق قدرات الطفل السوي{العادي}، ولاسيما العقلانيين من أصحاب المدرسة البنائية،{أصحاب مقاربة التدريس بالكفاءات}. وفي جميع المدارس يجمعون على أن الطفل مزود طبيعيا، بقدرات خارقة تجعله يتلقى كل الرسائل والإشارات بكفاءة عالية، إذا توفرت الشروط التربوية والنفسية في البيئة المدرسية. وتنمية المهارات العقلية واللغوية والحس/حركية تكون بالممارسة والتدريب والتعزيز.
وهذه الآراء الموثقة لهؤلاء العلماء في مصادرها، ليست آراء  انطباعية على غرار السرديات الحميمية، ممن تعود على ترديدها  أصحاب الفضاء الفرانكفوني من الإعلاميين والسياسيين، والتي قالوا فيها: بأنهم استقوها من الخبراء المستوردين من فرنسا والسينغال وبعض مسيحيي لبنان. وهي المقولات التي لم نسمع بها في باقي دول العالم. فكانت استثناء لا يتردد إلا في قاموس الفضاء الفرانكفوني في المغرب العربي ومصر ولبنان..ممن تعاني مشكلات الهوية والانتماء.
وقدرات الطفل الخارقة على التعلم، هي نظريات تربوية ونفسية معروفة لدى من لهم علم بالنظريات الشهيرة، التي توصل إليها أكابر علماء التربية ضمن مدارس كبرى وشهيرة، كالمدرسة السلوكية والعقلانية اللتين كان لهما باع كبير، في السيطرة على النظم التربوية في العالم كله.
 فالمدرسة التقليدية،( ما قبل تأسيس مدارس علم النفس الشهيرة التي انبثقت عنها سيكولوجية التعلم الحديثة، والتي مازال يفكر بمبادئها بعض المسئولين والإعلاميين عندنا)، هي التي كانت تصف الطفل بالقصور, والعجز والضعف، وأنه ليست له ميول واتجاهات ورغبات ودوافع، لأنه صفحة بيضاء خالية من التجارب والخبرات. لذلك كانت تفرض عليه أنماطا من السلوك والخبرات، تتضمنها المناهج والبرامج والطرائق القديمة.
 لذلك كانت لا تستجيب لقدراته ورغباته وميوله. وخبراء التربية الذين اقترحوا التدريس بالعامية ، إما أنهم أصحاب أجندة معينة ندبتهم جهات ما عن طريق وزارة التربية، لتنفيذ خدمات جليلة للغة الفرنسية على المديين المتوسط والبعيد، أو أنهم ما فتئوا يفكرون بالعقلية التقليدية التي تحتقر الطفل وتزدريه. وإلا كيف نفسر دعوتهم إلى التدريس بلغة الشارع التي تفتقر إلى الإبداعية في التعبير والتصوير؟!!
وحسب تجاربنا الطويلة في هذا الميدان، تدريسا وإشرافا وكتابة، فقد ألفينا الأطفال في السنة الأولى يستوعبون الدلالات المفاهيمية و الرمزية و التحليلية، و التركيبية لبنى الأصوات والكلمات والعبارات والصيغ.( في القراءة الإجمالية  والتحليلية والتركيبية والصور الرمزية  في العبير التواصلي، والصور الرمزية للأصوات ذات الدلالات المختلفة في الكتابة). يستوعبون ذلك، بمهارات عالية واقتدار كبير.
والطرق الإجمالية والتحليلية والتركيبية، هي طريقة ثورية،( خلافا للطرقة الحرفية والصوتية) في تعليم القراءة للمبتدئين. فهي أحدث ما وصلت إليه عبقرية السيكوبيداغوجيا، عبر نظريات التعلم الشهيرة في عالمنا اليوم. ولا يوجد غيرها لا في أمريكا، ولا في أوروبا ولا في غيرهما. وهي أهم عنصر في المقاربة البنائية التي تعتمد  الظواهر اللغوية ذات المقاربة النصية،( اللغة الكتابية المتأنقة بالألفاظ الفنية في تصوير المعاني والأخيلة) وفق أحد النظريات. لبياجي ودواز وشومسكي. وهي أحدث نظرية في الديداكتيك { التعليمية العامة والخاصىة} وهذه المقاربة التربوية، هي المعتمدة في تعليم  اللغات للأطفال الصغار في العالم. وهذا هو المعتمد في مناهج الابتدائي عندنا. فماذا يريد هؤلاء الخبراء من وراء ذلك؟ !!
ورجال التربية وخبراؤها، ممن لهم إطلاع واسع على المدارس الفكرية والنفسية، وعلى النماذج التعليمية، وفلسفة التربية وتعليمية المواد. وأسس بناء المناهج، ونظم التقويم ومعايير القياس، والقواعد النسقية لتعلم اللغات، ممن اختبروا هذه الحقائق، ووقفوا على كنهها وصعوباتها وعوائقها، هم وحدهم من يحق لهم أبداء الرأي في هذه المشكلات. وليس من درس عاما أو عامين بغير هدى .
  وسمح لنفسه بإدلاء آرائه الخاطئة، بغير علم في الجرائد لينال المثوبة ممن كان يقصدهم..وكذلك ليس من حق الإعلاميين أن يحرجوا أنفسهم بالتحليل الذاتي، عن مقاربات تربوية معقدة، لا تدخل في نطاق اختصاصهم.
 والذكاء اللغوي أو اللفظي الراقي،{الفصيح} هو الذي يستدعي الصور المعنوية الراقية في الذهن.حسبما ذهب إليه علماء المدرسة الترابطية وعلى رأسهم أرسطو.
 وليس العامية الغبية التي ليست لغة إبداعية. وحسب إحصائيات قام بها علماء اللغة، اعتمادا على القواميس والمعاجم في الدول التي تهتم جامعاتها بالبحث، فإن القاموس اللغوي للهجات العامية في العالم العربي لا تتجاوز ثلاث آلاف كلمة في الوطن الواحد. والطفل في سن التمدرس يعي حوالي ألفين وخمسمائة كلمة فقط في قاموسه العامي. وهو قاموس منحدر من الفصيح، فقد خصائصه الإعرابية والصرفية والدلالية. وبعضه دخيل من الفرنسية، ودور المدرسة يبدأ بتصحيح هذه الكلمات بطريقة غير مباشرة، مثل قول الطفل عند التعبير عن وضعية أثارته: هاذا كارطابل، فيقال له: نعم هذه محفظة. فيلتقط مدلول الإشارة بسرعة فائقة، ويردد الأطفال ذلك على مسامع بعضهم  البعض. وكقوله:  هاذي طومبيل، فيقال له: نعم هذه سيارة ...يحدث هذا بالتدرج وبدون حشو وهكذا .
 بينما الطفل في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما عند الطبقات العليا، يكون لديه في هذه السن أثنا عشر ألف كلمة بالفصيح الانجليزي. ولكم أن تتصوروا فوارق محصلات التعلم ونواتجه، عندنا وعندهم، فالذكاء اللغوي أو اللفظي الفصيح، هو قاعدة التعلم الجيد.
 والعامية فقيرة من الرموز الدلالية، لأنها غير مقعدة،  وكذلك من الترادف والمعاني العميقة، والأساليب الفنية الراقية، والعبارات المجازية بدلالاتها المختلفة. والفصحى بنظامها النحوي والصرفي والبلاغي، وبثراء قاموسها وإبداعيتها وقدرتها التوليدية، هي التي تشكل اللحمة الأساسية في الشبكة الدماغية، عبر قنوات عصبية تنمي العمليات العقلية العليا، كالخيال والتصور والتفكير والتذكر والانتباه والإدراك. أنظروا إلى الأدباء وكتاب السيناريوهات في العالم المتطور أو الناشئ، كيف يكتبون سيناريوهات بمائتي حلقة وأكثر. على حين كتاب السيناريوهات بالعامية في العالم العربي، لا يقدرون على أكثر من ثلاثين حلقة في أحسن الأحوال. وفي الجزائر لا تتجاوز عشرين حلقة في القليل النادر. بسبب ضعف الخيال والإبداعية اللذين من عوامل بلادتهما، التفكير بالعامية ذات القصور الدلالي والخيالي.
وحسب بعض الإحصائيات القاموسية والمعجمية، لأربع لغات كبرى فان العربية تتسع لأكثر من 12300000مليون كلمة. والانجليزية 600000ألف كلمة. والفرنسية 150000 ألف كلمة. والروسية 130000 ألف كلمة.
هكذا أراد هؤلاء الخبراء الذين استوردتهم الجهات الرسمية من فرنسا والسنغال، أن يستبدلوا اثنا عشر مليون كلمة من الفصيح الراقي، بثلاث آلاف كلمة من العامية على المدى القريب، وبمائة وخمسين ألف كلمة من الفرنسية على المدى المتوسط والبعيد. وهذه هي الغاية النهائية التي يرومونها. أما الأمازيغية المسكينة فهي مغلوبة على أمرها، وهم يزايدون بها من أجل التمكين للفرنسية فقط.
 وبعد خمسين سنة أخرى، حينما يصل العالم إلى ذروة المجد بتطوره وارتقائه نحو الكمال، تكون الجزائر قد دمروها لغويا وثقافيا وعلميا. كما دمروها اقتصاديا واجتماعيا خلال الخمسين سنة من الاستقلال. وتصبح هذه الفرنسية المستعمر العقلي الجديد، التي يمكنون لها اليوم في الجزائر بنية حسنة أو غير حسنة، لهجة شوارع وأزقة، يستذكرها المسنون من الشيوخ والعجائز في فرنسا، ومجالها الحيوي في الفضاء الفرانكفوني، يستذكرونها في في ألم وحسرة، حين يصبحون، ويبكون على مجدها وعظمتها حين يمسون في أماكن لهوهم وسمرهم؟!!
لأن الانجليزية اللغة العالمية والعلمية الذائعة الصيت والشهرة، تكون قد اكتسحت العالم، وسيطرت على الجامعات ومراكز البحث والاستشراف في فرنسا. وحينها نعود إلى نقطة الصفر ثقافيا ولغويا. كما عدنا في النظام الاقتصادي. حيث انقلبوا على الاشتراكية التي كانوا يتغنون بعبقريتها وسحرها ورونقها بالأمس القريب، وتبنوا اللبرالية الطاغية، التي كان حكام اليوم يصفونها بالامبريالية المتوحشة، وسنرتب حينها في التصنيف الدولي بأننا شعب ضال وبلا هوية.
وبهذه السياسة المنتهجة، ستغلق الصحف المعربة بعد جيلين أو ثلاثة جرائدها وقنواتها،لأنها لا تجد من يقرؤها فضلا عن فهمها.
يتبع

 الحلقة الثالثة
 وهذه المقدمات من الإجراءات المحبوكة بإتقان كبير،، لاتخاذ العامية لغة للتدريس. هي  التي تجعل بعد زمن لا يطول أمده، الجزائريين غير قادرين على قراءة القرآن الكريم  والحديث النبوي الشريف، والثقافة التراثية، لأن الفصحى تكون قد احتضرت ووافاها أجلها، وستصبح كاللاتينية في أوروبا. فينطفئ نور الله. وهذه هي اللحظة الحاسمة التي ستغمر فيها السعادة، قلوب أبناء من يقف وراء الدعوة إلى التدريس بالعامية.
والمدرسة السلوكية المعتمدة في بناء المناهج السابقة،( الظاهر تأثيرها على هؤلاء الخبراء) هي التي تعتمد البرمجة العقلية والبساطة إلى حد الإسفاف في بناء التعلمات، لكون ذلك يتماشى مع قدرات الأطفال المحدودة، ويقررها مبدأ المثير والاستجابة.أما النظرية البنائية ذات الجذور العقلانية لبياجي وشومسكي، فتتبنى مقاربة عقلانية تعتمد على السيرورات {بالسين} الذهنية (المتمشيات العقلية) في بناء التعلمات. يقول شومسكي فيما معناه: إن الطفل يمتلك قدرات خارقة في التقاط الإشارات والرسائل مهما كانت معقدة.( في إشارة إلى نقد المدرسة السلوكية). ويستطيع أن يدرك المعرفة الضمنية للبنى التركيبية في النص اللغوي، انطلاقا من العتبات الخارجية لغلاف الكتاب، فلا يعجزه الإدراك الدلالي والرمزي للسياقات المختلفة. فعقله مصمم طبيعيا لاستيعاب ذلك، ويستطيع أن يولّد مفردات ودلالات جديدة لم يسبق له معرفتها من قبل.
وأنا أقول انطلاقا من خلال هذه الدراسة اللسانية: لرجل كبير ومشهور في المجتمع العلمي الغربي. وهو صاحب النظرية التوليدية الشهيرة ، ومن خلال تجاربي بالاحتكاك مع أساليب التدريس المختلة، فأقول: خاطبوا الأطفال بلغة الجاحظ وامرئ القيس، فإنهم يمتلكون القدرات الذهنية الخارقة لاستيعاب دلالاتها, وإذا ما وقع خلل ما في التحصيل الدراسي، فإنما يعود إلى عوامل خارجة عن ذواتهم.
 وبهذه المناسبة أشير إلى أن العالم كله،  بناء على الأسس العلمية لبناء المناهج، ونظم التربية  والتعليم، واشتقاق الغايات المنبثقة من نظريات شهيرة، أنتجتها مدارس فكرية ونفسية كبرى، كلها دعت إلى ضرورة تبني الخلفية الفكرية والثقافية والنفسية للمجتمعات، كمرجعية أساسية في بناء فلسفة المناهج وتوجهات التربية، وغايات التدريس. وقد أجمعوا على أن فلسفات المجتمعات الثقافية، هي المرجعية الأساسية في اشتقاق الغايات الكبرى، والتي منها تشتق بقية الأهداف  والمخططات والاستراتجيات، والمناظير  والقواعد النسقية في بناء أي نظام تربوي وإصلاحي.
      والروابط الاجتماعية التي تحدد أبعادها، خواص القيم الثقافية والحضارية للأمة. هي التي تشكل الإطار المرجعي لغايات التعليم ( المقاصد البعيدة)، التي تشتق منها أهداف التعليم ( تقع في المدى القريب والمتوسط ).
     ومؤسسات الدولة العليا من السلطات التنفيذية والتشريعية، هي وحدها من يخولها القانون الاضطلاع بهذه المسؤولية، بالاعتماد على المرجعية الدستورية المنبثقة من القوانين والمواثيق الوطنية، المستمدة من الإرث الثقافي للأمة، من ذلك على سبيل المثال بيان أول نوفمبر.
 مع وجوب استشارة المؤهلين من جماعة الضغط،  كالأحزاب السياسية، والمجتمع المدني والمنظمات الوطنية والنقابات والمثقفين... ويستلزم الأمر عند تناول مشكلات التربية المتعلقة بالمناهج، والمضامين والمحتويات والأهداف، مراعاة خصوصية الهوية الوطنية المتعلقة بالأهداف القيمية التي لها ارتباط وثيق باللغة والدين والثقافة والحضارة والتاريخ. وعلاقة ذلك باللغات الحية والتراث الإنساني والبعد العلمي والتكنولوجي، والمهارات المراد تنميتها ونوعية الإنسان الذي يراد تكوينه. وطبيعة الأخلاق التي يراد غرسها في عقول  الناشئة.  
 فالسلطات العليا هي وحدها من يخولها القانون تحديد السياسة العامة للتربية والتعليم . وفي مقدمتها الغايات البعيدة التي يرتكز عليها محور التربية.
    أما فيما يتعلق بالجوانب التقنية والسيكوبيداغوجية، وارتباطها بالمقاربات الثورية ضمن المدارس النفسية والفكرية الكبرى، ممن لها ارتباط كبير، ببناء المناهج والبرامج والوثائق التربوية، والسندات التعليمية وسيكولوجية التعلم، ونظرياته ونظام التقويم والتحفيز والتعزيز، وكل ما له صلة بذلك. فهو من اختصاص وزارة التربية , فتوكل الأمر إلى الأكاديميين والباحثين والخبراء، والمهرة من رجال التربية والتعليم، ممن يدخل في قائمة النظام النسقي الذي تحدد قواعده فلسفة التربية.
وهذا ما قرره (بوبيت، وكانيي، وتايلر، وبلوم...) وغيرهم كثير. وهم الرواد الأوائل الذين أسسوا علوم التربية الحديثة، وبناء المناهج والبرامج واشتقاق الأهداف والغايات، ووضع الاستراتجيات والمناظير. وتقرير لغة التعلم، يدخل ضمن نطاق التوجهات الكبرى  التي لا يجوز لوزارة التربية الخوض فيها، وإن فعلت فستورط نفسها في ممارسة اختصاص هو من صلاحيات السلطات العليا في البلاد.
ثم إن هؤلاء الخبراء الذين قرروا التدريس بالعامية، قد أوقعوا أنفسهم في تناقض كبير، فهم من جهة يدعون إلى التخلي عن التدريس بالفصحى لصعوبتها، ومن جهة أخرى يخططون لتعميم تدريس بعض اللهجات المحلية في 80 بالمائة من المدارس حسبما صرحوا به. والناس كلهم يعلمون بأن الأطفال من غير أهل تلك المناطق يجهلون خواص النطق بهذه اللهجة، ومثل ذلك يقال عن  اللغة الفرنسية، وهي لغة غريبة عن الأطفال، وليست ضمن مجال إدراكهم. فهل ندرس هاتين اللغتين بالعامية لصعوبة استيعابهما مثلما نفعل مع الفصحى، أم أن الأمر موقوف على العربية الفصحى فقط ؟ لأمر ما قد دبر بليل.
 فإذا كانت دعواهم صادقة، فالمطلوب تعميم تطبيق تلك التجربة القاسية والمغامرة غير المحسوبة مع اللغة الفرنسية، التي يراد التمكين لها في البلاد..
ثم بعد ذلك، لِمَ لمْ تدرك لجة بن زاغوا في إصلاحها هذا الاكتشاف العبقري النادر. مع أن المسيطرين فيها كانوا من المثقفين بالفرنسيىة، تتقاسم مع هؤلاء الخبراء والمسئولين روابط الولاء والحب لكل ما هو أجنبي. ومن تعاسة هذا البلد، وفي الوقت الذي أعلنوا فيه التدريس بلغة الشارع، دعوا إلى التخلي عن امتحان نهاية المرحلة الابتدائية. وهو قرار خطير يراد به تحطيم التعليم. لغاية هم يعرفونها.
 لأن النسق التربوي في الابتدائي، يعمل بجهود مضنية انطلاقا من السنة الأولى حتى الخامسة، بغية تحقيق الأهداف المسطرة في المناهج. فاختبارات السنة الخامسة يا مسئولون،،،، هي الحافز الخارجي الذي يخلق الدافع الداخلي للاهتمام بالتعلم وفق المعايير المطلوبة.
وتعد هذه الإجراءات الغريبة التي فاجأتنا بها وزارة التربية، المؤشر الحقيقي على أن القرارات التي تصدر في الشأن التربوي، ليس لها ما يبررها من الوجهة التربوية والقانونية، فنحن الذين خبرنا القطاع طويلا، ندرك بأن هذا الإجراء لا تدرك غاياتاه ومقاصده، وهو لذلك يعتبر إجراء محيرا يقود إلى الشك والارتياب في أنه يقصد به  غايات غير معلومة.
لقد مرت المدرسة بهذه التجربة حين تأسس النظام التربوي الجديد بعد إصلاحات الجيل الأول. وكان الاعتماد في الانتقال على ما يسمى اختبارات الفحص التي كان يشرف على تنظيمها، مفتشو المقاطعات التربوية. وكان الغش وتضخيم العلامات هما السمة الغالبة على الاختبارات، لانعدام الصرامة في الرقابة والتصحيح. وهما السبيل الوحيد للظهور أمام المقاطعات الأخرى بالتفوق.
وأنا على يقين، انطلاقا من التجارب السابقة، أن التخلي عن اختبارات الخامسة، ستجعل التلاميذ في الابتدائي ينتقلون إلى المتوسط بحاصل  نواتج الحد الأدنى فقط،  لنقص الرغبة والاهتمام لدى التلاميذ وأوليائهم. والانتقال إلى المتوسط بنواتج الحد الأدنى، لا تؤهل التلميذ  إلى الاندماج بفعالية ضمن المرحلة المتوسطة، لعدم تملكه نواتج معايير الإتقان التي تشكل مخرجات المرحلة الابتدائية. ومدخلات للمرحلة المتوسطة. وهذا هو المطلوب تحقيقه على أساس العلاقة النسقية بين المراحل التعليمية.
 وفي الختام أريد أن أشير إلى أن المثقفين بالفرنسية، مازالوا يعيشون في أوهام ظروف القرون: السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، حيث كانت فرنسا قوة ضاربة في الأرض. فهم – مع الأسف الشديد- مازالوا لم يتخلصوا من فكرة أن الأرض هي مركز الكون، وأن فرنسا هي مركز الحضارة. إنهم ينظرون إلى العالم بنظارات معتمة، إنهم لم يدركوا بأن العالم تغير وموازين القوى انتقلت إلى محاور أخرى. ولم يدركوا أن الفرنسية اليوم تحتضر في عقر دارها. وقد حوصرت من كل الجهات، ولم تعد تحظى بذلك الوهج من الهالة،  ولم يبق لها نبض إلا في بعض المستعمرات المتخلفة التي تحجرت في كهوفها، وتوقف عنها الزمن. مثل أصحاب الكهف الذين ظنوا عند استيقاظهم أنهم يعيشون في عهد دقيانوس. بينما الزمن كان قد امتد لأكثر من ثلاثمائة سنة.
وفي الختام،أحب أن أوجه دعوتي إلى الذين دعوا إلى اعتماد العامية في التدريس، من السياسيين والإعلاميين والمثقفين، ممن صفقوا وهللوا إلى التدريس بالعامية، أن يجربوا ذلك على أبنائهم وأحفادهم المنتظمين في ديكارت، والمدارس الخاصة التي تعتمد المناهج الفرنسية. وبعض الذين قد تحملهم الطائرة صباحا إلى باريس للدراسة في مدارسها. بأن يخصصوا لهم مدارس تجريبية في أحيائهم الراقية التي لا تطِؤها أقدام البسطاء من أبناء الشعب الذين يريدون أن يجربوا عليهم نظريات غريبة.
 أما أن يجعلوا أبناءهم ينسجون علاقة حميمية مع الفرنسية، وروافدها الثقافية بالمدارس الخاصة، ويعبثوا بأبناء الشعب بتوريطه في مشاريع استعمارية قديمة، قصد تجهيله وتفقيره وسلخه عن هويته، فلن يتم لهم ذلك مادام الشعب الجزائري به رمق من حياة. وما دام في البلاد مسئولون لهم حس وطني، ومتشبعون بالقيم الوطنية على نحو الموقف المشرف الذي وقفه  الوزير الأول ومن ورائه مؤسسة الرئاسة، بالدفاع عن العربية وروافدها الثقافية.
انتهى
أ.خير الدين هني















Reviewed by Unknown on 11:57 ص Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

Privacy Policy

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.