أزمة المثقفين مع الحكم في العالم العربي ( الحلقة الأولى)
كنت أنوي في مقالتي
هذه أن أعالج موضوع أحداث الربيع العربي، عوامله الخارجية، ودوافع الداخلية. وما
نتج عن ذلك من فوضى سياسية ألحقت ضررا بالغا بجسم هذه الأمة الجريح. ولكنني آثرت
أن أتحدث قبل الولوج في هذا الموضوع الشائك عن مشكلة عويصة، كانت هي السبب المباشر
في وقوع هذا الربيع. الذي كان لابد أن يكون مرحلة من المراحل التي تسبق التغيير الذي
يدعو إليها قانون الصراع الطبيعي بين قوى الجمود والركود. وبين قوى التغيير
والانفتاح والنور!!! وسأترك الحديث عن الربيع العربي إلى فرصة أخرى. إن
شاء الله.
وسأتناول موضوعا آخر
كان سببا في وقوع هذا الربيع بمآسيه وأحزانه. ومخلفاته الخطيرة التي أضرت بكل
القطاعات الحيوية في دول هذا الربيع.
فالمشكلة الكبرى التي
أدت إلى تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، وما
نتج عنها من تداخل بين وظيفة الدولة كمؤسسة عمومية وضعت لرعاية الحقوق والواجبات،
وتحقيق مبدأ الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة بين الجميع، وبين وظيفة السلطة
التي يقوم بها صاحب الشرعية ممن انتخب عليه الشعب عن طريق الاقتراع العام والمباشر
والحر والنزيه والشفاف، فيمتلك عن طريق ذلك المشروعية في الحكم والتي تلزم
المواطنين قانونا بالسمع والطاعة، ولا تجيز الخروج عن الحاكم ، طالما يملك الشرعية
الشعبية. لأن طاعة الحكومة الشرعية واجب شرعي وقانوني.
فالمشكلة التي أردت
تناولها في هذا المقال هي إشكالية المثقفين مع الحكم، وعلاقة ذلك كله برجال السياسة
والحكم.وما يجب أن يكون بينهم من علاقة توافق حول
المصالح العليا للوطن والشعب.
إلا أن العلاقة بين المثقفين والحكم في العالم العربي أصبحت تطرح أكثر من
إشكالية على المستويين الفكري(النظري) والسياسي (العملي)، إذ ان المثقف من الوجهة الأكاديمية
هو المخول ( نظريا ) بامتلاك آليات التفكير لصياغة علاقات متوازنة بين الحياتين
السياسية والاجتماعية ، باعتباره فردا مؤهلا عقليا لإدراك حقيقة الصراع الذي تطرحه
المتناقضات بين النوازع النفسية، والمصالح الاجتماعية التي يفترض أن يلعب فيها
دورا أساسيا بحكم المسؤولية العلمية والأخلاقية الملقاة على عاتقه.
غير أن
عدم الشعور بهذه المسؤولية من لدن بعض هذه النخب، جعلت الوضع العام في عالمنا
العربي يزداد سوءا،إذ أحاطت به المآسي والمحن من كل جهة وجانب.
ومما
يؤسف له أن الكثير من المثقفين – في ظل الظروف الراهنة - عزلوا أنفسهم وتقوقعوا في
هامش من الحياة ، وتخلوا عن دورهم في تحمل الأعباء الثقيلة التي تفرضها عليهم مسؤولياتهم
الأخلاقية،في وجوب المساهمة الفعلية في إصلاح الأوضاع بما يتاح لهم من وسائل الضغط
والتأثير التي تتيحها لهم مواقعهم الثقافية والعلمية، ومراكزهم البحثية
والأكاديمية والسياسية والإعلامية، مما جعل الأمور تزداد تعقيدا وترديا وتدهورا.
ونتج عن ذلك أن صرنا نمشي القهقرى على درب الحياة،في اتجاه معاكس لقانون صراع قوى
الطبيعة الذي تفرضه دينامية التطور والارتقاء ضمن المسيرة الإنسانية.
إن العالم
العربي اليوم- مع الأسف الشديد- أصبح يشكل ظاهرة سياسية و اجتماعية خرجت عن السياق
التاريخي لما ألفته المجموعة البشرية ضمن نطاق الأحداث التي ينظمها قانون الصراع
الطبيعي الذي يراعي سنن التغيير في عالم الكائنات الحية عبر مسار تدرجي في النشوء
والارتقاء من الحسن إلى الأحسن.ومن القبيح إلى الجميل ومن البسيط إلى المركب...ولا
نستثني من هذه القاعدة إلا عالم الجماد الذي من سماته الجمود والركود على نحو ما
نلحظه في الصخور وغيرها من الكائنات المماثلة لها في طبيعة الخلق. وعلى هذا صرنا
نسير وفق مسار تاريخي رسمناه لأنفسنا على منحنى هندسي واحد لم يعرف التغيير منذ
مئات السنين.حفل بالمؤامرات والانقلابات
والدسائس، والكذب والغش والتدليس والتزوير
فكانت هذه الصفات الذميمة التي شكلت العقل السياسي والثقافي العربيين، وجمدته بحكم ثقل عوامل التراكمات التاريخية المأساوية التي فرضها على نفسه، والتي أصبحت قدرنا
الذي كتبناه على أنفسنا.
لذلك أصبحنا
اليوم نشكل نموذجا شاذا في تركيبتنا الذهنية،كما لو مازلنا نعيش ظروف العصور
الوسطى التي كانت معروفة بأحداثها المأساوية. وما نحن عليه اليوم من تشبث بتلك
التقاليد البالية التي جعلناها لازمة في أخلاقنا السياسية المعاصرة. خالفنا فيها
ما أجمعت عليه أمم الأرض قاطبة من وجوب انتهاج أطر سياسية جديدة في التعامل مع الظواهر
السياسية، وفق المنظور الديمقراطي المتعارف عليه في احترام الشرعية والمشروعية.التي
تفرضها طبيعة العصر المتغيرة.
وعلى هذا أصبحنا اليوم نمثل أضحوكة بين الشعوب والأمم،
شكلناها في دراما سياسية هزلية جعلت هذه الأجناس البشرية بأ بيضها وأحمرها وأسودها
تتندر بنا إذا أصبحت، وتتفكه بنا إذا أمست، وتتفذلك بنا إذا سمرت في أنديتها
وأماكن لهوها.
لقد أشفق
علينا الجميع إشفاق الحانيات، وحدبوا علينا حدب الباكيات.وتضوروا علينا تضور
الجائعات.... وتأسفوا على هذه الحال المزرية التي صار إليها أمرنا ، بسبب هذه
العصابات التي استحوثت على مفاصل الدولة العربية، وتسلطت على رقاب شعوبها. لقد أذاقوهم الأمرين ، أذاقوهم
الخسف والظلم والضيم، وسلبوهم كل شيء جميل في هذه الحياة، لقد سلبوهم حرياتهم
وأحلامهم وآمالهم، وقتلوا فيهم قوة الإرادة والطموح والعزيمة والتصميم والموهبة
والإبداع، لقد جعلوهم كائنات آدمية مجردة من العواطف النبيلة، لقد جردوهم من
الإحساس بكل ما هو جميل، لقد قتلوا فيهم حب الذات وحب الأوطان..وحب الأهل وحب الأولاد
وحب الزواج وحب الإنجاب، وحب الجمال، وحب الحياة وحب الأزهار والرياحين،وحب الحب..
وحب كل ما هو من جنس الحب....
وأصابوهم بالعشى والعمى، فصاروا يرون كل شيئ
جميل قبيحا . لقد جعلوهم بدون هوية وبدون كرامة، وبدون أمل وبدون مستقبل، وبدون
تفكير وبدون تمييز وبدون تأثير وبدون عمل، وبدون نظر وبدون لغة. وبدون ثقافة .لقد
قتلوا فيهم القدرة على معرفة مصطلحات لغاتهم، فحولوا معانيها إلى معان مجهولة أو
منهوكة أو مقطوعة أوغامضة أو مبهمة أو مشوشة . فصار الغدر حنكة والخيانة دهاء
واللؤم شطارة والنفاق كياسة والانبطاح حكمة، والجهوية عقيدة. لقد جعلوهم يبغضون كل
ما فيه حياة،أو يمت للحياة.
وأصبح
هذا العالم الذي وصفه الحق سبحانه وتعالى بالعالم الخيري الوسطي ، يسجل المزيد من
الهزائم والنكسات في مختلف مجالات التنمية السياسية والبشرية والديمقراطية والسياسية
، والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. فرغم أنه موجود في قلب العالم بين ثلاث
قارات. وهو فضاء جغرافي لم يتيسر وجوده لغير العرب. وقد أحاطت به عوامل النجاح ومؤثراته،
مما أنتجته أمم الغرب والشرق . ولكن مع ذلك لم يستفد من هذه التجارب الناضجة.
ولعل الذي
زاد من تراكم مشكلاته وتعقيداتها. كونه يعيش كباقي الشعوب ضمن دولة عصرية بقوانينها
وتشريعاتها ومؤسساتها وهياكلها وأجهزتها الإدارية. إلا أنه مازال مرتبطا بالذهنيات
التقليدية في تسيير شؤون الحكم. فهو مازال يسيرها بذهنية بدائية متخلفة. إذ مازال الحاكم
بأمر الله يعتبر نفسه هو الدولة وكل من يخالفه الرأي فهو عميل أو مرتزق يحرك
بإرادة خارجية، وهذه النظرة الاستعلائية للحاكم العربي جعلته يرفض أية حركة
إصلاحية مهما كان هدفها،وقد أدى بهم الغرور إلى توجيه الشتائم المقززة إلى شعوبهم.
فمنهم من وصفهم بالجرذان ومنهم من وصفهم بالمكروبات ومنهم من وصفهم بالشرذمة. ومنهم
من وصفهم بالناموس.
لذلك رفضوا
الإصلاح والتجديد في أساليب الحكم. مع السماح النسبي في ترك الحرية النقدية لرجال
السياسة والشخصيات اللامعة في نظام الحكم،وعدم جواز المس بالذات المقدسة للرجل
الأول. والسماح بتجويز نقد سياسته بطريقة غير مباشرة اقتداء بمقولة لويس السادس
عشر الشهيرة التي خالف فيها سلفه لويس الرابع عشر الذي كان يردد مقولته الشهيرة
أنا الدولة. إلا أن لويس السادس عشر كان قد طور أدوات خطابه السياسي، بقوله: أنا
أفعل ما أريد وأنتم قولوا ماتريدون.
وهذه
السياسة النرجسية للحاكم العربي زادت من تفاقم مشكلات شعوبه واستعصائها على الحل،إذ
أن الدولة المسكينة مازالت تسير بعقلية العشيرة والقبيلة والعروشية. مما كان له
تأثير سلبي على تفكير المثقفين والمواطنين على حد سواء. لذلك اختل ميزان التفكير
لدي الجميع. وأصبحوا يلتجئون إلى العزلة في دوائر مغلقة ، لا يهمهم سوى تأمين لقمة العيش بأية وسيلة
كانت. ولا شيء غير ذلك.
وهذا مأ أبعد
الفرد العربي عن وظائفه الأخلاقية كشريك في صناعة الرأي العام. التي يتيحه له واجب
المساهمة الفعلية في الظواهر السياسية.ودوائر التأثير في الحياة. وكأنه أصبح يشبه
الكائنات ممن هي دونه في الرتبة والشرف. فصار لا يهتم إلا بتأمين غذائه وإشباع
حاجاته البيولوجية فقط.
إنه كائن مفكر وذكي استخلفه الله في الأرض ليؤدي
رسالة أخلاقية بمفهومها
.../...
يتبـــع
أزمة المثقفين مع الحكم في العالم العربي ( الحلقة الأولى)
Reviewed by Unknown
on
10:38 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: